سورة الأعراف - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{قَالَ} استئنافٌ مَسوقٌ للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدمِ سجود، كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ وبه يظهر وجهُ الالتفاتِ إلى الغَيبة إذ لا وجهَ لتقدير السؤال على وجه المخاطبة، وفيه فائدةٌ أخرى هي الإشعارُ بعدم تعلقِ المحكيِّ بالمخاطَبين كما في حكاية الخلْقِ والتصوير {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} أي أن تسجُد كما وقع في سورة ص، ولا مزيدةٌ مؤكدةٌ لمعنى الفعل الذي دخلت عليه كما في قوله تعالى: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} منبّهةٌ على أن الموبَّخَ عليه تركُ السجود، وقيل: الممنوعُ عن الشيء مصروفٌ إلى خلافه فالمعنى ما صرفك إلى أن تسجد {إِذْ أَمَرْتُكَ} قيل: فيه دِلالةٌ على أن مُطلقَ الأمرِ للوجوب والفور، وفي سورة الحِجْر: {قَالَ يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} وفي سورة ص: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} واختلافُ العبارات عند الحكايةِ يدل على أن اللعينَ قد أدمج في معصية واحدةٍ ثلاثَ معاصٍ مخالفةَ الأمرِ ومفارقةَ الجماعةِ والإباءِ عن الانتظام في سلك أولئك المقرّبين والاستكبارَ مع تحقير آدمَ عليه السلام، وقد وُبِّخ حينئذ على كل واحدة منها، لكن اقتُصر عند الحكاية في كل موطنٍ على ما ذكر فيه اكتفاءً بما ذكر في موطن آخرَ وإشعاراً بأن كلَّ واحدةٍ منها كافيةٌ في التوبيخ وإظهارِ بطلانِ ما ارتكبه، وقد تُركت حكايةُ التوبيخِ رأساً في سورة البقرة وسورة بني إسرائيلَ وسورة الكهفِ وسورة طه.
{قَالَ} استئنافٌ كما سبق مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية التوبيخِ كأنه قيل: فماذا قال اللعينُ عند ذلك؟ فقيل: قال: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} متجانفاً عن تطبيق جوابِه على السؤال بأن يقول: منعني كذا مدّعياً لنفسه بطريق الاستئنافِ شيئاً بيِّنَ الاستلزامِ لمنعه من السجود على زعمه، ومشعِراً بأن مَنْ شأنُه هذا لا يحسُن أن يسجُدَ لمن دونه فكيف يحسُن أن يؤمرَ به؟ كما ينبىء عنه ما في سورة الحجر من قوله: {لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} فهو أولُ من أسس بنيانَ التكبر، واخترع القولَ بالحُسن والقُبح العقليَّين، وقولُه تعالى: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} تعليلٌ لما ادعاه من فضله، ولقد أخطأ اللعينُ حيث خَصّ الفضلَ بما من جهة المادةِ والعنصُر، وزل عنه ما من جهة الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} أي بغير واسطةٍ على وجه الاعتناءِ به وما من جهة الصورة كما نُبّه عليه بقوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} وما من جهة الغايةِ وهو ملاكُ الأمرِ ولذلك أُمر الملائكةُ بسجوده عليه السلام حين ظهر لهم أنه أعلمُ منهم بما يدور عليه أمرُ الخلافةِ في الأرض وأن له خواصَّ ليست لغيره، وفي الآية دليلٌ على الكون والفساد وأن الشياطينَ أجسامٌ كائنةٌ، ولعل إضافةَ خلق البشرِ إلى الطين، والشياطينِ إلى النار باعتبار الجُزءِ الغالب.


{قَالَ} استئنافٌ كما سلف، والفاء في قوله تعالى: {فاهبط مِنْهَا} لترتيب الأمرِ على ما ظهر من اللعين من مخالفة الأمرِ وتعليلِه بالأباطيل وإصرارِه على ذلك، أي فاهبِطْ من الجنة، والإضمار قبل ذكرِها لشهرة كونِه من سكانها قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا في عدْنٍ لا في جنة الخلد، وقيل: من زمرة الملائكةِ المعزّزين فإن الخروجَ من زمرتهم هبوطٌ وأيُّ هبوط، وفي سورة الحجر: {فاخرج مِنْهَا} وأما ما قيل من أن المرادَ الهبوطُ من السماء فيردّه أن وسوستَه لآدمَ عليه السلام كانت بعد هذا الطردِ فلا بد أن يُحمل على أحد الوجهين قطعاً، وتكونُ وسوستُه على الوجه الأول بطريق النداءِ من باب الجنة كما رُوي عن الحسن البصري، وقوله تعالى: {فَمَا يَكُونُ لَكَ} أي فمما يصح ولا يستقيم لك ولا يليقُ بشأنك {أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أي في الجنة أو في زمرة الملائكة. تعليلٌ للأمر بالهبوط فإن عدمَ صحةِ أن يتكبر فيها علةٌ للأمر المذكور، فإنها مكانُ المطيعين الخاشعين ولا دِلالة فيه على جواز التكبُّر في غيرها، وفيه تنبيه على أن التكبرَ لا يليق بأهل الجنةِ وأنه تعالى إنما طرده لتكبُّره لا لمجرد عصيانِه وقوله تعالى: {فاخرج} تأكيدٌ للأمر بالهبوط متفرِّغٌ على علته وقوله تعالى: {إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} تعليلٌ للأمر بالخروج مُشعرٌ بأنه لتكبره، أي من الأذلاء وأهلِ الهوانِ على الله تعالى وعلى أوليائه لتكبُّرك. وعن عمر رضي الله عنه: من تواضَع لله رفع الله حكمتَه وقال: انتعش أنعشك الله، ومن تكبر وعَدا طَوْرَه وهَصَه الله إلى الأرض.
{قَالَ} استئنافٌ كما مر مبنيٌّ على سؤال نشأ مما قبله، كأنه قيل: فماذا قال اللعينُ بعد ما سمع هذا الطردَ المؤكد؟ فقيل: قال: {أَنظِرْنِى} أي أمهلني ولا تُمِتْني {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي آدمُ وذرّيتُه للجزاء بعد فنائِهم، وهو وقتُ النفخةِ الثانية، وأراد اللعينُ بذلك أن يجد فُسحةً لإغوائهم ويأخُذَ منهم ثأرَه وينجُوَ من الموت لاستحالته بعد البعث {قَالَ} استئنافٌ كما سلف {إِنَّكَ مِنَ المنظرين} ورودُ الجوابِ بالجملة الاسميةِ مع التعرض لشمول ما سأله لآخرين على وجه يُشعر بأن السائلَ تبَعٌ لهم في ذلك صريحٌ في أنه إخبارٌ بالإنظار المقدرِ لهم أزلاً لا إنشاءٌ لإنظار خاصَ به إجابةً لدعائه وأن استنظارَه كان طلباً لتأخير الموتِ إذ به يتحقق كونُه من جملتهم لا لتأخير العقوبةِ كما قيل أي إنك من جملة الذين أخّرتُ آجالَهم أزلاً حسبما تقتضيه الحِكمةُ التكوينيةُ إلى وقت فناءٍ غيرَ ما استثناه الله تعالى من الخلائق وهو النفخةُ الأولى لا إلى وقت البعثِ الذي هو المسؤول، وقد تُرك التوقيتُ للإيجاز ثقةً بما وقع في سورة الحجر وسورة ص كما ترك ذكرُ النداء والفاءُ في الاستنظار والإنظار تعويلاً على ما ذُكر فيهما بقوله عز وجل: {رَبّ فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} وفي إنظاره ابتلاءٌ للعباد وتعريضٌ للثواب.
إن قلتَ لا ريبَ في أن الكلامَ المحكيَّ له عند صدورِه عن المتكلم حالةٌ مخصوصةٌ تقتضي ورودَه على وجه خاصَ من وجوه النظمِ بحيث لو أخل بشيء من ذلك سقط الكلامُ عن رتبة البلاغةِ البتة، فالكلامُ الواحدُ المحكيُّ على وجوه شتى إن اقتضى الحالُ ورودَه على وجه معينٍ من تلك الوجوهِ الواردةِ عند الحكاية فذلك الوجهُ هو المطابقُ لمقتضى الحالِ والبالغُ إلى رتبة البلاغةِ دون ما عداه من الوجوه، إذا تمهّد هذا فنقولُ: لا يخفى أن استنظارَ اللعينِ إنما صدر عنه مرةً واحدةً لا غيرُ، فمقامُه إن اقتضى إظهارَ الضراعةِ وترتيبَ الاستنظار على ما حاق به من اللعن والطردِ على نهج استدعاءِ الجبْرِ في مقابلة الكسر كما هو المتبادرُ من قوله: رب فأنظرني حسبما حُكي عنه في السورتين، فما حكي هاهنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلاً عن العروج إلى معارج الإعجازِ، قلنا: مقامُ استنظاره مُقتضٍ لما ذُكر من إظهار الضراعةِ وترتيب الاستنظارِ على الحِرمان المدلولِ عليه بالطرد والرجم، وكذا مقامُ الإنظارِ مقتضٍ لترتيب الإخبارِ بالإنظار على الاستنظار وقد طُبّق الكلامُ عليه في تينك السورتين ووُفّي كلُّ واحد من مقامَي الحكايةِ والمحكيِّ جميعاً حظَّه. وأما هاهنا فحيث اقتضى مقامُ الحكايةِ مجردَ الإخبار بالاستنظار والإنظارِ سيقت الحكايةُ على نهج الإيجاز والاختصارِ من غير تعرّضٍ لبيان كيفيةِ كل واحدٍ منهما عند المخاطبة والحِوار، إن قلت: فإذن لا يكونُ ذلك نقلاً للكلام على ما هو عليه ولا مطابقاً لمقتضى المقامِ قلنا: الذي يجب اعتبارُه في نقل الكلامِ إنما هو أصلُ معناه ونفسُ مدلولِه الذي يفيده، وأما كيفيةُ إفادتِه له فليس مما يجب مراعاتُه عند النقل البتة، بل قد تراعى وقد لا تراعى حسب اقتضاءِ المقامِ، ولا يقدح في أصل الكلامِ تجريدُه عنها بل قد يراعى عند نقلِه كيفياتٍ وخصوصياتٍ لم يُراعِها المتكلمُ أصلاً ولا يُخلُّ ذلك بكون المنقولِ أصلَ المعنى، ألا يُرى أن جميعَ المقالات المنقولةِ في القرآن الكريمِ إنما تحكى بكيفيات واعتباراتٍ لا يُكاد يَقدِر على مراعاتها مَنْ تكلم بها حتماً، وإلا لأمكن صدورُ الكلام المعجِزِ عن البشر فيما إذا كان المحكيُّ كلاماً، وأما عدمُ مطابقتِه لمقتضى الحالِ فمنشؤه الغفلةُ عما يجب توفيرُ مقتضاه من الأحوال، فإن مَلاكَ الأمرِ هو مقامُ الحكايةِ، وأما مقام وقوعِ المحكيِّ فإن كان مقتضاه موافقاً لمقتضى مقامِ الحكايةِ يُوفَّى كلُّ واحدٍ من المقامين حقَّه كما في سورة الحجر وسورة ص، فإن مقامَ الحكايةِ فيهما لمّا كان مقتضياً لبسط الكلامِ وتفصيلِه على الكيفيات التي وقع عليها رُوعيَ حقُّ المقامين معاً، وأما في هذه السورةِ الكريمةِ فحيث اقتضى مقامُ الحكايةِ الإيجازَ رُوعيَ جانبُه.
ألا يُرى أن المخاطبَ المنكِرَ إذا كان ممن لا يفهم إلا أصلَ المعنى وجب على المتكلم أن يجرِّد كلامَه عن التأكيد وسائرِ الخواصِّ والمزايا التي يقتضيها المقامُ ويخاطِبَه بما يناسبه من الوجوه لكنه مع ذلك يجب أن يقصِدَ معنى زائداً يفهمه سامعٌ آخرُ بليغٌ هو تجريدُه عن الخواصِّ رعايةً لمقتضى حالِ المخاطَبِ في الفهم، وبذلك يرتقي كلامُه عن رتبة أصواتِ الحيواناتِ كما حُقِّق في مقامه فإذا وجب مراعاةُ مقامِ الحكايةِ مع إفضائها إلى تجريد الكلامِ عن الخواص والمزايا بالمرة فما ظنُّك بوجوب مراعاتِه مع تحلية الكلام بمزايا أُخَرَ يرتقي بها إلى رتبة الإعجازِ لا سيما إذا وُفّيَ حقَّ مقامِ وقوعِ المحكيِّ في السورتين الكريمتين وكان هذا الإيجازُ مبنياً عليه وثقة به؟


{قَالَ} استئنافٌ كأمثاله {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى} الباءُ للقسم كما في قوله تعالى: {فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ} فإن إغواءَه تعالى إياه أثرٌ من آثار قُدرتِه عز وجل وحُكمٌ من أحكام سلطانِه تعالى، فمآلُ الإقسامِ بهما واحدٌ، فلعل اللعينَ أقسم بهما جميعاً فحكى تارةً قسَمَه بأحدهما وأخرى بالآخر، والفاءُ لترتيب مضمونِ الجملةِ على الإنظار، وما مصدريةٌ أي فأقسم بإغوائك إياي {لأقْعُدَنَّ لَهُمْ} أو للسببية على أن الباءَ متعلقةٌ بفعل القسمِ المحذوفِ لا بقوله: {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ} كما في الوجه الأول، فإن اللام تصُدّ عن ذلك أي فبسبب إغوائِك إياي لأجلهم أُقسم بعزتك لأقعُدّن لآدمَ وذرِّيتِه ترصّداً بهم كما يقعُد القُطّاع للقطع على السابلة {صراطك المستقيم} الموصِلَ إلى الجنة وهو دينُ الإسلام، فالقعودُ مجازٌ متفرِّعٌ على الكناية، وانتصابُه على الظرفية كما في قوله:
كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ ***
وقيل: على نزع الجارِّ تقديرُه على صراطك كقولك: ضرب زيد الظهرَ والبطنَ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8